عن جارنا الذي رحل!

جميعنا اختبرنا، في لحظة ما، فقدان الأحبة، وما يتركه هذا الفقد من ذكريات وشروخ وابتسامات محفوفة بالوجع! وليس أقسى وأصعب على الإنسان أن يعود بذكرياته مع شخص ما، جمعه به موقف أو ذكرى في هذه الحياة! 

 

فمع كل فقيد عزيز يرحل عن هذه الحياة، يرحل جزءٌ منا، فموت من يسكن القلب، يؤدي إلى موت جزء منا أيضاً نحن الأحياء. فصدق ما قاله الشاعر الفلسطيني الراحل، محمود درويش: "الموت لا يوجع الموتى، الموت يوجع الأحياء" فهل لك أن تتخيل بعد اليوم أن تمر بهذا الزقاق أو ذلك الحي، دون رؤية عزيز أو صديق أو جار، اختاره الموت دون استئذان؟!

 

فكيف لي بعد اليوم، أن أمر بالشارع الموازي لبيتنا دون أن أسلم على جارنا وصديقي رياض الزيود (أبو حمزة) الذي رحل عن دنيانا قبل أيام قليلة بسبب جلطة خاطفة لم يقو على مجابهتها؟! ذاك الرجل الستيني البهي والوديع، خفيف الظل يغادرنا بهدوء كما كان في حياته رقيق اللسان والمعشر.

 

لم أصدق حينما مررت من أمام محله التجاري، أن أرى نعيه مكتوباً على ورقة، كان هذا المشهد ينذر أنني فقدت صديقاً وأخاً للأبد، يصعب أن تأتي الدنيا بمثل طيبة قلبه وصدقه ورجولته مرة أخرى! فرغم فارق السن الذي بيننا، إلا أنني كنت مقرباً منه، استظل بظله ويستظل بظلي، يضحكني وأضحكه، يصدقني وأصدقه، يعاتبني فأسمعه، يمسك بيديّ فأحس بقوة الأب الحاني.. تلك النعمة التي افتقدتها منذ زمن بعيد! 

 

أهكذا ترحل يا أبا حمزة، دون أن أودعك؟ قلتها بغصة، عندما عرفت بموتك، ولا زلت غير مصدق أنك ذاهب دون رجعة، فليس من طبعك الغياب الطويل! إنه الموت إذن، يسرق من أحببناهم في هذه الحياة، ومن تعودنا على رؤيتهم بيننا، يسرق الأنقى والأجمل والأغلى.. والأصدق! ياااه، ما أقساك أيها الموت، وما أسرع مجيئك! 

 

قل لي، بماذا سأذكرك بعد اليوم؟ بقهوتك التي لم أذق ألذ منها سوى قهوة أمي، أم بطيور الحب التي كانت تغرد أجمل الألحان في محلك المتواضع؟ فأنت الذي كنت تحب العصافير والطيور، كانت تشعرك بأن هناك شيء جميل في هذه الدنيا، وأن الإنسان يزداد رقة وشعوراً حينما يستمع لها.. ما أصدقك أيها الوفي! 

 

ولعل فلسفة الموت التي أعشق أن أتعمق فيها لأبعد الحدود، من باب الأدب بعيداً على أن الموت هو بيد الله جل في علاه، تجعلني أتذكر على الدوام أن الموت للشجعان، فمعانقة الموت عندما يأتي هي أيضاً من الشجاعة، خاصة عندما نكون قد وضعنا في حقيبة هذه الحياة ما يبعد عنا الخوف من مقابلة الله، وأننا سنكون بين يديه، بكل عدل، فهو العادل الذي لا يظلم عنده أحد.

 

خبر الموت صعب، عندما ينزل علينا كالصاعقة، ويخنق العبرات بداخلنا.. فلكم أن تتخيلوا القهر والحزن على فراق من نحب، خصوصاً أنه يجعلنا نشعر بصدمة الزلزال التي تشق الأرض، يجعلنا نستذكر شريط الحياة لمن نحب وكأنه كلمح البصر، فلا نصبح نفكر في شيء سوى باحتضان الذكريات، والتسابق إلى ذكر كل تفاصيل من مات بمواقفه، وحبه، وحزنه، وحياته.

 

أكررها.. الموت لا يوجع الموتى، حقاً لا يوجعهم؛ لأنهم فارقوا هذه الحياة جسداً ولكن لا تزال أرواحهم تحلق في كل الأماكن التي حولنا! وسنبقى يا أبا حمزة نحبك، بحضورك وغيابك، ونتذكر مآثرك التي لا تُنسى، ولا يمكن لها أن تزاح من ذاكرة كل من عرفك وعاشرك واستمتع برفقتك.

 

رحمك الله، نم قرير العين، هناك.. حيث الصفاء والنقاء.. ولا وجع ولا ابتلاء. وليكن لنا لقاء- بإذن الله- في جنات وسعها السماوات والأرض.