
العدالة الاجتماعية.. نحو حماية وضمان أشمل للجميع دون تمييز
"عيش، حرية، عدالة اجتماعية". شعارات رددها الشباب العربي، بعد أن وقعوا في مهب أزمات طاحنة، تفاقمت خلال السنوات الأخيرة في أنحاء كثيرة من العالم، وذلك كله في ظل تغيرات مهمة كان من جملتها تنامي الاختلالات الاقتصادية المرتبطة بالعولمة، والتحولات الديموغرافية، وارتفاع تدفقات الهجرة، وتواصل ظروف الهشاشة.
ولم تسلم بيئة العمل من هذه الاضطرابات، ففي بلدان عدة، أدت جهود التصدي لهذه التحديات والتغيرات المتعددة، التي عدت غير مرضية، إلى تنامي مشاعر الاستياء العام والريبة في المؤسسات القائمة والجهات الفاعلة في الحياة العامة.
في هذا الوقت تحديداً، تحتفل الأوساط الدولية باليوم العالمي للعدالة الاجتماعية في الـ20 من شباط/فبراير من كل عام، للتذكير بالفجوات الاجتماعية والتعاملات الطبقية، حيث تزداد الفروقات الاقتصادية والاجتماعية بشكل مطرد سنوياً، رغم كل الجهود الأممية والمنظمات الدولية.
هذه الأحوال غير الطبيعية في ظل مناخات غير صحية تفتقر للعدالة والمساواة والتوزيع العادل للثروات، دفعت إلى انحراف مفاهيم التضامن الإنساني والعدالة الاجتماعية، مما يتسبب بمتغيرات ديموغرافية وموجات من الهجرة غير النظامية، مدفوعة بارتفاع الاضطرابات السياسية والنزاعات العسكرية.
وبحسب الأمم المتحدة؛ يقاس مؤشر الفشل بتحقيق العدالة الاجتماعية بستة معايير، أولها غياب الحرية، وانتشار الظلم، والفساد، والمحسوبية. والثاني هو عدم المساواة في توزيع الدخل بين الأفراد. بحيث يختلف الدخل باختلاف العرق أو الجنس أو غير ذلك. والثالث هو عدم المساواة في توزيع الموارد والممتلكات كالأراضي والمباني بين الأفراد. والرابع هو عدم المساواة في توزيع فرص العمل بأجور مجزية. والخامس هو عدم المساواة في الحصول على فرص التعليم، وعلى الخدمات التعليمية المختلفة كالإنترنت والكتب. والأخير هو عدم المساواة في توزيع خدمات الضمان الاجتماعي والخدمات الصحية.
التضامن الإنساني والعالمي
وبناء على التوصيات التي قدمت في إطار خطة الأمم المتحدة المشتركة الرامية إلى تعزيز التضامن العالمي وإعادة بناء الثقة في الحكومات بـ "التغلب على العوائق وإطلاق العَنان لفرص العدالة الاجتماعية"، تتيح هذه المناسبة لهذا العام فرصة لتعزيز الحوار مع الدول الأعضاء، والشباب، والشركاء المجتمعيين، ومنظمات المجتمع المدني، وكيانات الأمم المتحدة، وغيرها من أصحاب المصلحة الآخرين، فيما يتصل بالإجراءات اللازمة لتقوية العقد الاجتماعي، الذي تمزق بسبب تزايد التفاوتات والصراعات وضعف المؤسسات العاملة في مجال حماية حقوق العمال.
وتوضح الأمم المتحدة أنه رغم هذه الأزمات، فإن ثمة فرص عدة لبناء تحالف من أجل العدالة الاجتماعية وإطلاق المزيد من الاستثمارات في الوظائف اللائقة، مع التركيز بشكل خاص على الاقتصاد الأخضر والاقتصاد الرقمي والاقتصاد القائم على خِدْمَات الرعاية وعلى الشباب.
وأشارت إلى أن العدالة الاجتماعية تسهم في تحسين أداء المجتمعات والاقتصادات، وتحد من الفقر وأوجه غياب المساواة، وتخفف التوترات الاجتماعية، كما تضطلع بدور مهم في رسم مسارات أكثر شمولا واستدامة للتنمية الاجتماعية والاقتصادية، وهي أساسية لتحقيق أهداف التنمية المستدامة في إطار خطة التنمية المستدامة 2030، لا سيما في وقت لم يزل فيه تحقيق هذه الأهداف بعيد المنال.
وذكرت أنه من الأهمية أكثر من أي وقت مضى أن يتحد النظام متعدد الأطراف حول مجموعة من القيم والأهداف المشتركة، ويحدد سبل الاستجابة لتطلعات الناس واحتياجاتهم، لذلك يجب أن تصبح العدالة الاجتماعية ركيزة من ركائز تعددية الأطراف المتجددة المطلوبة، وهدفا جامعاً، وأداة جوهرية في آن لبناء نظام متعدد الأطراف أكثر نجاعة، بما يضمن الاتساق بين السياسات التنموية والاقتصادية.
الأردن.. والعدالة الاجتماعية
يبدو بشكل ملموس، أن مسارات الحمايات الاجتماعية في الأردن تراجعت بشكل كبير خلال العقود الماضية، وهو ما نبه إليه المرصد العمالي الأردني في بيان له بهذه المناسبة، والذي أشار فيه إلى أن مظاهر ضعف العدالة الاجتماعية في الأردن عديدة، وفرص الوصول إلى الموارد التي تمكن أفراد المجتمع كافة من العيش بكرامة تتراجع سنة بعد سنة. إذ لاحظ الارتفاع الكبير في معدلات البطالة وبخاصة بين الشباب والنساء، وانخفاض مستويات الأجور وعدم فاعلية سياسات العمل بعامة والتشغيل بخاصة، إلى جانب ارتفاع مستويات الأسعار وضعف جودة التعليم والرعاية الصحية، وهشاشة منظومة الحماية الاجتماعية وعدم شموليتها.
ونبه البيان إلى أن مظاهر ضعف مؤشرات العدالة الاجتماعية وتفاقم مظاهر التفاوت الاجتماعي واللامساواة الاقتصادية الواضحة للعيان، نجمت عن جملة من السياسات الاقتصادية والاجتماعية، تمثلت في فرض منظومة ضريبية غير عادلة، حيث تشكل الإيرادات الضريبية غير المباشرة (الضريبة العامة على المبيعات والضرائب المقطوعة والرسوم الجمركية) ما يقارب ثلاثة أرباع مجمل الإيرادات الضريبية، وهي لا تميز بين فقير وغني، ما ساهم بشكل كبير ولافت في رفع مستويات الأسعار وتكاليف المعيشة وبالمقارنة مع الدول الأخرى التي تزيد فيها مستويات الدخول أضعاف مستوياتها في الأردن.
فيما تطالب مؤسسات المجتمع المدني الأردني، ومنها منظمة النهضة العربية للديمقراطية والتنمية (أرض)، من خلال دراسات عديدة أعدتها حول الضمان الشامل والحماية المجتمعية، بضرورة فتح الحوار بين كافة الجهات نحو الحماية الاجتماعية الشاملة والمستدامة، مع أهمية تضافر جهود المجتمع المدني والقطاعين الحكومي والخاص للتأسيس لنظم حماية اجتماعية تكون خطط الضمان الاجتماعي الشاملة إحدى ركائزها الأساسية، ومحاربة الفقر وتوسيع شبكات الأمان وعمل إصلاحات تشريعية تتلاءم مع خطط الاستجابة للأزمات وتحسين النظم الاجتماعية الموجودة حالياً لتواكب التغيرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تشهدها المنطقة ودول العالم.
وكانت منظمة (أرض)، قد دعت خلال إقامتها أسبوع الضمان الشامل، إلى حاجتنا لانطلاقة جديدة وامتلاك إرادة سياسية حقيقية للتغير، لضمان حصول جميع الأفراد على حقوقهم وشمولهم في أنظمة الحماية، وإتاحة المجال أمامهم للعمل والتفكير في إعادة بناء منظومة الحماية الشاملة، وكذلك الاستثمار في هذه المنظومة الذي يعني الاستثمار في ازدهار الأوطان، مع ضرورة تمتع الأطفال بطفولة آمنة، وإتاحة الفرص لوصولهم إلى إمكاناتهم الكاملة وتمكينهم فيما بعد من المشاركة الفاعلة في بناء مجتمعاتهم ورفد اقتصادها، إضافة إلى تمكين الأشخاص ذوي الإعاقة من أن يكونوا جزءاً لا يتجزأ من المجتمع والتمتع حقهم في العيش بكرامة.
ماذا عن العالم العربي؟
وفي العالم العربي، شكل تعزيز العمل اللائق في المنطقة الهدف الأساسي لدى المكتب الإقليمي للدول العربية التابع لمنظمة العمل الدولية، لأنه يجسد تطلعات الأفراد في حياتهم المهنية، وآمالهم المعلقة على الفرص والمداخيل والحقوق والاستقرار العائلي والتطور الشخصي والعدالة والمساواة بين الجنسين، بالإضافة إلى رغبتهم في إيصال صوتهم والاعتراف بدورهم.
في هذا الإطار، تستند البرامج الابتكارية في منطقتنا العربية إلى 4 أسس بالغة الأهمية وهي: استحداث فرص العمل، وتطوير المؤسسات والحماية الاجتماعية، والمعايير والحقوق في العمل، والحوار الاجتماعي.
إلا أن واحدة من أكبر الفجوات ضمن مفهوم العدالة الاجتماعية لبعض البلدان هي قضية الأجور المناسبة للعمل، فهناك فروق بين أجور النساء والرجال، وهناك فروق أخرى بين كبار السن والشباب رغم أدائهم نفس العمل والوظيفة، وهناك بلدان أخرى يعاني فيها العمال للتمييز بحسب العرق والقومية، ولذا ثمة حاجة لتبني إجراءات ومبادرات تشريعية وعملية تؤتي ثمارها في مواضع كثيرة.
مراجعة التشريعات والسياسات.. ليس أمامنا سوى التكاتف!
إزاء هذه الحالة المقلقة، من المهم الاستجابة لتطلعات الناس واحتياجاتهم خلال الدورة الحياتية ككل، فضلاً عن ضرورة إعادة نظر الحكومات بمجمل سياساتها الاقتصادية والاجتماعية والتوجه نحو الاستثمار بالحمايات الاجتماعية بمختلف أبعادها، وزيادة فاعلية الإنفاق على التعليم والرعاية الصحية والتشغيل، ومراجعة السياسات الضريبية لتكون أكثر عدلاٍ بتخفيض الضريبة العامة على المبيعات وفرض مبدأ التصاعدية على ضريبة الدخل على الأفراد والشركات، إلى جانب زيادة مستويات الأجور لتعزيز الطلب المحلي، الذي هو أحد المحركات الرئيسية للنمو الاقتصادي.
كما من الضرورة أن يحرص أصحاب العمل، على إجراء مراجعات داخلية دقيقة وعلى أساس دوري لرواتب الموظفين، وفقاً لفئاتهم الوظيفية وخصائصهم السكانية، إلى جانب التوعية بأهمية المساواة في الأجور بين جهات العمل باعتبارها جزءاً أصيلا من المسؤولية الاجتماعية للمؤسسات، وتبيان انعكاساتها الإيجابية على كل من الأداء الفردي ورأس المال البشري والأداء المؤسسي عموماً.
أخيراً؛ لا بد أن نعي أن استمرار العمل بهذه السياسات سيضعف تمتع المواطنين بحقوقهم الاقتصادية والاجتماعية، وسيهدد الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، ويضعف كذلك فرص تحقيق معدلات نمو اقتصادي مستدام قادر على توليد فرص عمل لائقة، مما يظهر الحاجة الماسة إلى تكاتف الجهود للتصدي لها على المستوى العالمي والإقليمي والوطني.