
"تشات جي تي بي".. ماذا سيغير في قواعد اللعبة؟
حُبست أنفاس العام في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، عندما أطلقت شركة "أوبن إيه آي" الأمريكية نموذج ذكاء اصطناعي عبر الإنترنت أطلقت عليه اسم "تشات جي بي تي"، وهو تطبيق محادثة متطور يمكنه الإجابة على أسئلة عامة المستخدمين المختلفة، كما أنه يكتب الشعر والنثر، ويتحدث باقتدار عن أي موضوع تقريباً، وبحد أدنى من المدخلات اللغوية الأولية.
التطبيق أثار ضجة كبيرة لدرجة أن الأطباء والعلماء يحاولون تحديد ماهية حدودها، وما يمكن أن تفعله في مجالات الصحة والطب والاقتصاد والسياسية، خصوصاً أنه تم تدريبه من خلال تحليل مليارات الوثائق النصية والتلقين البشري، وهو قادر تماماً على تقديم محتوى مفيد ومسلي بشكل لا يصدق.
وللوهلة الأولى قد يبدو بالنسبة لعامة الناس جيداً بما فيه الكفاية في تقليد الإنتاج البشري، لدرجة أنه أثار المخاوف بشأن استحواذه على بعض الوظائف التي يؤديها البشر، فضلاً عن الهدف آخر يتمثل بإغراء المستثمرين والشركاء التجاريين الذين قد يرغب بعضهم في يوم من الأيام في استبدال العمالة الماهرة البشرية باهظة الثمن، مثل كتابة رموز الحاسوب، بالروبوتات البسيطة.
مع ذلك، لا يزال هناك سبب وجيه للشك، ناهيك عن أن المخاطر التي تنطوي على استخدام البرامج الذكية ظاهرياً واضحة، فكما يجلب أي مبرمج بشري تحيزاته الخاصة لعمله، فإن أداة توليد النصوص في هذا النظام معرضة لتحيزات لا حصر لها في مليارات النصوص المستخدمة لتدريب فهمها المحاكي للغة والفكر.
لذلك، لا ينبغي لأحد أن يخطئ في تمييز محاكاة الذكاء البشري عن الذكاء البشري الحقيقي، ولا يفترض اعتبار المؤشرات الموجودة في النص الذي يجتره نظام محاكاة المحادثة البشرية الآلي موضوعياً أو موثوقاً. ومثلنا نحن البشر، فإن مخرجات الذكاء الاصطناعي التوليدي قائمة على ما لديه من مدخلات.
فخذ مثلاً أمريكاً نفسها؛ التي اضطرت في عديد من جامعاتها ومدارسها إلى حظر الوصول إلى البرنامج عبر شبكاتها، بغية منع الطلبة من الاستفادة منه في الامتحانات وكتابة المقالات. ففي نيويورك، فرضت إدارة المدارس في الولاية قراراً بحظره على كافة الأجهزة والشبكات في المدارس العمومية، وذلك خشية "الآثار السلبية على عملية التعلم لدى الطلبة، والتحوّط مما قد يقدمه النموذج من معلومات خاطئة أو غير دقيقة".
في المقابل، وأمام هذا الواقع الجديد، هل ثمة ما هو جيد في هذا النظام؟ بالدرجة الأولى أثار "جي تبي بي" اهتمام الأطباء لدرجة أن الممارسات الطبية، والجمعيات المهنية، والمجلات الطبية أنشأت فرق عمل لمعرفة كيف يمكن أن تكون مفيدة، وفهم القيود والمخاوف الأخلاقية التي قد تسببها، إلى جانب زيادة توعية المجتمعات بمزايا الذكاء الاصطناعي، وتحفيز الأجيال القادمة للتعرف عليه ودراسته والمساهمة في تطويره، خاصة أنه سيفتح آفاقاُ جديدة لمعالجة مشاكل المجتمع و"أتمتة" الأنظمة وتفريغ الكادر البشري لإنجاز الحلول الإبداعية.
بشكل عام؛ التكنولوجيا سلاح ذو حدين تتوقف الفائدة منها على استخدامها بالشكل الصحيح، لكن "شات جي بي تي" تظهر عيوبه في خطر الاعتماد الكامل عليه دون التحقق من المخرجات التي يتم استقبالها وإرسالها، وهو ما نوهت إليه الشركة المنتجة للتشات (أوبن إيه آي) بأنه قد ينتج عنه معلومات مغلوطة، وتعليمات مؤذية وغير محادية، إلى جانب معلومات محدودة للعالم.
يبدو حتى الآن أن صانعي السياسات غير مدركين إلى حد كبير لهذه الثورة، فثمة من يدعو إلى الترحيب بها بروح من التفاؤل، مع الانتباه إلى مخاطرها المحتملة لآمن البيانات والخصوصية والتوظيف وغير ذلك من مخاطر قد تتصل بقضايا وجودية. فبقدر ما يمكننا لمس الجوانب الإيجابية لأدوات الذكاء الاصطناعي، من السهل أيضاً رؤية جوانبها الأشد سلبية؛ كالتحيز في البيانات التي تم التدريب عليها بإتاحة نتائج متحيزة أو تميزية عند استخدام النموذج في تطبيقات العالم الحقيقي.
يبقى التساؤل الأهم، هل تساهم هذه الثورة التكنولوجية في القضاء على الوظائف؟ بمعنى هل يحل هذا التطبيق مكان الكتاب، والمؤلفين، والصحفيين، وممثلي خدمة العملاء والمبرمجين، وغيرهم؟
لنرى ما سيحدث!