
قيود الروح.. والأم ونضالها!
الصدفة وحدها من تقودنا غالباً لاكتشاف مصائرنا، فمن يتوقع أن لقاءً عابراً بين ثلاث أمهات في أحد مشافي التوليد بدمشق، قد يقود إلى رحلة من المصائر المشتركة بين شخصيات تلتقي، لتفترق، ثم تلتقي من جديد، ليكمل الأبناء مجريات هذا اللقاء الذي شاء له القدر أن لا يكون عابراً.
تلك باختصار حكاية مسلسل "قيود الروح" التي صاغها الخيال الدرامي لكلٍ من الفنانة يارا صبري والفنان بسام كوسا، والكاتبة ريما فليحان، في مسلسلٍ يحمل توقيع المخرج ماهر صليبي، والذي نجح في شرح دراما الإنسان وتفاصيل الحياة بحلوها ومرها.
اللافت أن هذا العمل الإنساني الغارق في تفاصيل النفس البشرية، يلامس حياتنا بتفاصيلها الصغيرة التي لا نشعر بها، ويروي قصصاً مشوقة عن أسر تمثل شرائح مختلفة تتباين في الأهواء والطموحات والنظر إلى المستقبل، وتمتد أحداثها على مدى ثلاثة عقودٍ من الزمن بين عامي 1983 و2009.
تتطور شخصيات "قيود الروح" على مدى خمس مراحل زمنية، تنتقل فيها كاميرا المخرج من قلب دمشق القديمة وأحيائها في ثمانينيات القرن الماضي، إلى بيئة دمشق المعاصرة بأحيائها الحديثة والعشوائية التي تخفي وراء كل بابٍ حكاية تستوحي أحداثها من تفاصيل حياتنا اليومية.
الحنين إلى قيم ومبادئ افتقدها المجتمع المعاصر، والذي طغت عليه الماديات، هو ما يحاول المسلسل تذكير الناس بها، تزامناً أيضاً مع تناول مرض الإعاقة الذهنية بطريقة درامية علمية واقعية، من خلال حالة إحدى الشخصيات التي تمت معالجتها عبر مرجعيات طبية متخصصة.
كل تلك التفاصيل؛ لم تغنيها وتزيدها ألقاً وعمقاً إلا بوجود الأم وقوتها ونضالها تجاه أسرتها، فتجد صورة مغايرة عن الواقع المرير الذي نعيشه. الأم هنا محاربة ومدافعة عن أطفالها الذين شاءت أقدارهم أن يكونوا في مجتمعات رجعية لا ترى أبعد من أنفها.
فإلى جانب رصده لمصائر الشخصيات وتطورها في إطار التحولات الاجتماعية والحياتية التي شهدتها دمشق على مدى أربعة وعشرين عاماً، خاض المسلسل في تفاصيل حالة إنسانية خاصة لطفلٍ مصاب بمرض التوحد منذ الولادة، وتتعهد والدته برعاية استثنائية حتى بلوغه عمر الثلاثين، وتواجه كل الصعوبات العائلية والمجتمعية التي تعترضها لتنمية قدرات ابنها، وتحسين فرصه في الحياة، وتناضل من أجل تقبل المجتمع له.
فهل هناك أبهى وأجمل من نضال الأم؟ قطعاً لا. فهي التي ورثت الروح الكفاحية للأجيال، وكانت الأم الحنون التي حافظت على الأسرة في أكثر الظروف صعوبة وقسوة، وهي كذلك التي قاست مع أولادها مر العذاب، ووهبت عمرها وحبها لتمنحهم كل معاني الإخلاص والحب والوفاء.
ورغم أن المسلسل يعالج قضية الأطفال ذوي الإعاقة، إلا أن حضور الأم في حياة أطفالها كان الأبرز والأصدق.. غريبة وعجيبة هي الأم، بأحاسيسها الصادقة والجميلة وحبها اللامتناهي لأبنائها، تعطي دون مقابل، مثال لا مثيل له لعطاء بلا حدود، وتقدم الكثير والكثير، تؤثر عن نفسها أبنائها.
أقف وقفة امتنان وسلام للأم، بقلبها الكبير المعطاء، فهي بريق في سماء الكون، وإعجاز من الله، بل وأقدس معاني الإنسانية وأعظم هبات الحياة، وملحمة الأرض.. إنها طاقة الروح في ظلمة يأسنا!