للتذكير فقط.. مريضة في زنزانة!

قبل عامين، تحديداً في 11 شباط/ فبراير 2020، استيقظ الأردن على تحقيق استقصائي وثّق بالصوت والصورة تعرض مريضات مصابات بأمراض نفسية لاعتداءات لفظية وجسدية بطريقة وحشية، فضلاً عن حبسهن في زنازين انفرادية كنوع من العقاب.

تلك الأفعال التي كشفها تحقيق "مريضة في زنزانة" الذي بُث عبر قناة "رؤيا"، وأشرفت على إنتاجه وعمله منذ البداية، حدثت خلف جدران المركز الوطني للصحة النفسية التابع لوزارة الصحة الأردنية، والمعروف شعبياً بـ" مصح الفحيص".

فهناك، في ذلك المركز الذي يفترض به أن يكون مصحاً علاجياً ورعائياً، لا مكان للنوم الهادئ المطمئن، ولا ما يحزنون. صيحات الألم والخوف تتعالى في المكان من كل صوب، والأهم، اعتداءات جسدية وسوء معاملة بحق نساء ذنبهن الوحيد أنهن مريضات!

ورغم أن التحقيق سبب صدمةً قوية بين الناس، وقرر على أثره وزير الصحة الأردني السابق، سعد جابر، إحالة الفيديو المصور إلى النائب العام "لإجراء المقتضى القانوني بمن يثبت بحقه أي إساءة إلى المرضى والتحقق مما ورد في الفيديو المتداول"، إلا أن التحقيق أقفل في وقتها مع دخول جائحة كورونا إلى المملكة، وكأن شيئاً لم يحدث!

مناسبة العودة لهذا التحقيق، احتفال العالم باليوم العالمي للصحة النفسية الذي يصادف 10 تشرين الأول/ أكتوبر من كل عام، وهي مناسبة "مهمة" لتبيان مشكلة الصحة النفسية في الأردن والمنطقة العربية والعالم ككل، حيث باتت تشكل خطراً كبيراً، وانعكاساً لظروف اقتصادية واجتماعية وإنسانية، وحتى سياسية، تغرق بها إنسانيتنا.

واقع الصحة النفسية.. مكانك سر

أردنياً؛ يقدر الإنفاق الحكومي على قطاع الصحة النفسية بنحو 3% من موازنة قطاع الصحة. ويرى مختصون في هذا المضمار أن "نتائج تقييم خدمات الصحة النفسية في الأردن تشير إلى غياب سياسة واضحة أو خطة وطنية مكتوبة ومعتمدة. كما لا يتوفر قانون خاص بالصحة النفسية إنما تتم معالجة هذا المحور من خلال بعض التشريعات النافذة بشكل جزئي".

ونقلاً عن دراسات أكاديمية تبين أن نسبة تتراوح بين 12 و20% من الأردنيين تعاني اضطرابات نفسية، وهي النسبة التي تعادل مليون و750 ألف مواطن تقريباً. يتمكن نحو 5% منهم فحسب من تلقي العلاج النفسي.

فيما يعالج مئات الأردنيين سنوياً في "مصح الفحيص"، بعضهم يمكث فيه أسبوعاً واحداً، وبعضهم قد تطول مدة علاجه، فوفق بيانات وزارة الصحة الأردنية، أدخل 2720 مريضاً ومريضة إلى المركز عام 2018.

وتقدم وزارة الصحة خدمات الصحة النفسية بشكل مجاني، من خلال المركز الوطني للصحة النفسية ومركز الكرامة للتأهيل النفسي، والعديد من عيادات الصحة النفسية في كافة المحافظات، وهناك 64 عيادة خارجية للصحة النفسية، واحدة منها مخصصة للأطفال واليافعين.

أما في القطاع الخاص، فتبلغ أسعار جلسات العلاج النفسي للزيارة الأولى والتي لا تتجاوز مدتها 45 دقيقة ما بين العشرين إلى الأربعين ديناراً بناءً على تحديد نقابة الأطباء، مع وجود هامش للزيادة بقيمة عشرة دنانير تقريباً، وفي لبنان على سبيل المثال؛ تبدأ أسعار الجلسات من 50 دولاراً وقد تمتد لتصل المئة، بينما في مصر؛ فتبلغ تلك التكلفة 250 جنيهاً مصرياً أي سُدس دخل الفرد هناك.

مشكلة عالمية!

في العالم ككل، يعاني شخص واحد على الأقل من كل ثمانية من مشكلات الصحة العقلية، بحسب منظمة الصحة العالمية، التي تؤكد أن الخدمات والمهارات والتمويل الخاص بالصحة النفسية لا تزال شحيحة، وأقل بكثير مما هو مطلوب، لا سيما في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل.

كما تؤكد أن التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية المتزايدة والنزاعات التي طال أمدها والعنف وحالات الطوارئ الصحية العامة التي تؤثر على مجموعات سكانية بأكملها تهدد التقدم نحو تحسين الرفاهية.

في السياق، إن مشكلة نزوح ما لا يقل عن 84 مليون شخص قسراً بسبب النزاعات والكوارث الطبيعية عام 2021، عطلت من خدمات الصحة العقلية، واتسعت فجوة علاج الحالات.

وتظهر أرقام المنظمة أن الأشخاص الذين يعانون من حالات صحية عقلية يموتون قبل الأوان، بما يصل إلى 20 عاماً قبل المتوسط - بسبب ظروف جسدية يمكن الوقاية منها، كما أنهم أكثر عرضة للمعاناة من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان والتمييز والوصم في بعض البلدان.

الشباب.. خطر يلوح بالأفق!

خطر الصحة النفسية لا يبدو تأثيره بعيداً عن الشباب، فهناك واحداً من كل سبعة مراهقين تتراوح أعمارهم بين 10 و19 عاماً يعيشون مع شكل من أشكال حالات الصحة العقلية، وصولاً للانتحار الذي يعد خامس أكثر أسباب الوفاة انتشاراً في هذه الفئة العمرية، أي ما يقارب 45800 يموتون كل عام بمعدل وفاة واحدة كل 11 دقيقة.

وفي استطلاع عالمي للمنظمة، أفاد واحد من كل خمسة أشخاص تتراوح أعمارهم بين 15 و24 عاماً بأنهم غالباً ما يشعرون بالاكتئاب ولا يهتمون كثيراً بفعل الأشياء.

توعية آنية وتحرك سريع

في الإطار العام الأردني والعربي، يجب تحدي الثقافة المجتمعية المستخفة بأهمية العلاج النفسي، وأن نطلب المساعدة النفسية دون خجل، مع أهمية الالتزام والمشاركة والاستثمار من قبل جميع أصحاب المصلحة في جميع القطاعات بمنح الصحة النفسية أولوية كبيرة.

ومن الضروري أيضاً التوعية بأهمية معالجة القضايا النفسية، ومطلوب أيضاً من وزارتي الصحة والتربية والتعليم، توعية الأجيال المقبلة بضرورة أهمية العلاج النفسي وتقبل المريض في المجتمع، وعدم نبذه، وتحسين الصورة المجتمعية من خلال المناهج الموجهة للطلاب، والحث على العلاج النفسي من خلال المرشدين النفسيين، والأهم الارتقاء بمستوى الخدمات المقدمة للمرضى مع ضمان عدم تعرضهم للإهانة والاعتداءات.