"شوهد من قبل"

يحدث أن تتعرض لموقفٍ ما، فتشعر أنك عشته من قبل بكل تفاصيله، كأن تلتقي بشخص للمرة الأولى، لكنك تعتقد أن هذا اللقاء جرى من قبل، أو أن تشاهد موقفاً فتقول في نفسك: "ليست هذه المرة الأولى التي أشاهده"، تلك بالضبط ظاهرة "ديجا فو" كما سماها الباحث الفرنسي ايميلي بويراك، وهي كلمة فرنسية تعني، شوهد من قبل!

وبالرغم من اختلاف تفسيرات العلماء لحدوث هذه الظاهرة، بين من يرى أنها تحدث بسبب وجود خلل مؤقت في الذاكرة يجعلك تشعر وكأن هذا الموقف حدث من قبل، ومنهم من يقول بأن الجنين أثناء نومه في بطن أمه يرى دورة حياته منذ الولادة وحتى الممات، وبعضهم يحيل هذا الشعور إلى الحاسة السادسة، وبعضهم يعتقد أن أدوية معينة وراء حدوث الديجا فو وغير ذلك الكثير، لكنني أجزم أن المواطن العربي هو أكثر من تمر عليه الأحداث فتكون "شوهد من قبل" حقيقة لا خيال، بدون أدوية أو حاسة سادسة أو خلل في الذاكرة!

كلنا شاهدنا حادثة سقوط وانفجار حاوية محملة بغاز الكلورين السام في ميناء مدينة العقبة الأردنية، والتي راح ضحيتها 13 إنسان بينما نُقل 300 مصاب للمستشفيات، وربما كانت ردة فعلنا الأولى: "شوهد من قبل"، فقد ذكرتنا الحادثة بانفجار مرفأ بيروت الذي نتج عن تفجّر أطنان من نترات الأمونيوم، وراح ضحيته زهاء 300 شخص بينما أصيب الآلاف، الأسباب تختلف، والخسائر كذلك، لكن الوجع واحد، ومشهد الإهمال هو الماثل في الحالتين .

كلنا قرأنا أيضاً عن مقتل الطالبة الأردنية إيمان ارشيد، في جامعة العلوم التطبيقية، وكلنا كانت ردة فعلنا الأولى: "شوهد من قبل"، فقبلها بأيام؛ كان العالم العربي حزيناً على قصة مشابهة، كان ضحيتها نيرة، طالبة جامعة المنصورة، تشابهت الضحيتان، وتشابه القتلى، وتشابه مسرح الجريمة، وتشابهت الحسرة على حال النساء في أوطاننا!

الثورات التي قادها الشباب وكانوا وقودها، لعلهم يصلحون أحوال بلادنا، ثم سرقها الذين ضحى الشباب بأرواحهم لتغييبهم عن المشهد، ارتفاع نسب البطالة، انفجار نسب الفساد، السجون التي صارت مفتوحة لجرائم التعبير عن الرأي، وخطايا الاحتجاج على الوضع القائم، التطبيع مع الكيان الصهيوني وإقحامه في تفاصيل حياتنا عنوة، التدخلات الغربية السافرة في شؤون بلادنا، الانتهاكات التي تتكرر في فلسطين بالتفصيل الممل، من قتل وتهجير وسلب الحقوق والأراضي، كل هذه الأشياء تحدث باستمرار لكنها "شوهد من قبل"، فيما يظل العربي يسأل وطنه: متى نرى فيك العدل ؟ ومتى يظهر الحق على الباطل؟ ومتى تصير السجون لمن سرقوك وباعوك، لا لمن عبروا عن غضبهم لما يجري فيك فعاتبوك؟! متى يتوقف الدم ويتبدد الهم ويعود اللاجئون إلى حضن الديار الأم ؟!

متى نعانق الفرح في بلادنا فنقول : "شوهد من قبل"، حقيقة لا ظاهرة!