
منى السعودي... الأردنية الحالمة بتزيين عمّان
كان حلم "ربة عمون" كما لقبتها صديقتها، أن تزين شوارع وساحات مدينة عمّان بمنحوتات كبيرة، إلا أن ذلك- للأسف- لم يتحقق سوى في منحوتات قليلة.
هذه هي النحاتة الأردنية والعربية، منى السعودي، التي غادرت عالمنا قبل أيام، وبقيت أعمالها الإبداعية وسيرتها العطرة تشهد عليها، باعتبارها من النساء القليلات اللواتي دخلن هذا المجال.
تكشف سيرة حياة هذه الفنانة التشكيلية الرائدة التي ولدت في عمان عام 1945، وقارعت الحجر بإزميل وبعزم وصبر وعناد، عن نبوغ مبكر، حيث لم تكتف بموهبتي الرسم والنحت، إنما شقت طريقها إلى الشعر أيضاً.
تذكر الراحلة في إحدى مقابلاتها، أنها كانت تترك اللعب مع أصدقائها، لتتفحص الحجارة المنحوتة المبعثرة حول المنزل؛ تلعب معها وتتأمل تفاصيلها وتحاورها، أعطتها هذه التجربة الشعور بقدرة الإنسان على عمل أشياء عظيمة تبقى على مدى الزمن.
وفي بيت يقع بالقرب من سبيل الحوريات والمدرج الروماني، سكنت الراحلة، قبل أن تستقل في سن السابعة عشر سيارة أجرة إلى بيروت، لتمكث عند أخيها، دون علم وموافقة والدها، الذي لم يرد وقتها تسجيلها في أي جامعة.
أكملت دراستها الثانوية هناك عام 1963، وتعرفت على نخبة بيروت الفنية، وأقامت أول معرض لرسوماتها في مقهى الصحافة، حيث استطاعت بيع مجموعة من لوحاتها، الأمر الذي مكنها من شراء تذكرة سفر للذهاب بالباخرة إلى باريس؛ وهو ما كان حلمها منذ الطفولة، فالتحقت عند وصولها بالمدرسة العليا للفنون، وبدأت تتردد على المسارح والمتاحف والحفلات الموسيقية، وصالات العرض الباريسية.
أثناء إقامتها في باريس، شهدت أحداث مايو 1968، وهي فترة من الإضرابات المدنية التي عمت فرنسا. ساهمت هذه التجربة في زيادة وعيها الثقافي والسياسي، وبدأت تفكر بالعودة إلى الوطن، لتكون جزءاً من حركة التغيير في المجتمع.
وهكذا كان؛ فعادت إلى عمان، وبدأت فوراً بالعمل مع الأطفال في مخيم البقعة، إلا أنها سافرت مجدداً للعيش في بيروت عام 1969، في ذات العام؛ ذهبت إلى الدنمارك لتعرض رسوماتها الداعمة للقضية الفلسطينية، وهناك تم اعتقالها مع شخصين لبضعة أسابيع، بتهمة التخطيط لاغتيال رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي آنذاك بن غوريون، حيث كان لها علاقة بالمنظمات الفدائية، إلا أن الحادثة بأسرها كانت على الأرجح فخاً مدبراً من الموساد.
خلال مسيرتها؛ أنتجت السعودي كتاباً بعنوان "أربعون سنة من النحت"، وكتابان شعريان هما: "رؤيا أولى" و"محيط الحلم"، ووضعت عدة مجموعات مستوحاة من الشعر، كتحية منها لشعراء مثل محمود درويش، وأدونيس، والشاعر الفرنسي سان جون بيرس وكذلك امرؤ القيس.
كما نُشر لها قصائد عدة في مجلة (شعر) التي أسسها يوسف الخال. تقول السعودي في قصيدة لها عام 1968 تحت عنوان "سلاماً أيتها الطيور المسافرة":
أرى الشواطئ فأميل عنها بشراعي
نحو لا نهاية المياه
أعد الأمواج واحدة.. واحدة
أصرخ بالبحر: مزيداً من البعد.. مزيداً من البعد
في الشواطئ الضجر!
يقول الناقد السينمائي، عدنان مدانات، في كتابه "عدسات الخيال" والذي قدم فيه رؤيته النقدية لشعر السعودي: "في قصائدها احتفاء بهوية الإنسان وكينونته، بحريته وتعاليه وشموخ وجوده الروحاني والجسدي، وبرغباته وشهواته وأحلامه، وبإنجازاته وقيمه وانطلاقاته نحو عالم أكثر عدالة وجمالاً".
وخلال تقديمه لديوانها الثاني "محيط الحلم"، يعتبر الناقد والروائي العربي، الراحل جبرا إبراهيم جبرا، أن "قصائدها تأتي ضرباً من البرهان على مصداقية رؤيتها النحتية، وهي وثيقتها اللفظية تجاه تجربتها الآنية المضطربة دائما بالحلم الذي لا يبارحها، فهي إن تكتب كشاعرة يسكنها هم الكلمة التي تجوهر ذلك الحب القصي في الدواخل الذي يحاول أن يدانيه تعبيراً ما تنحت من هذا الحجر.."
وذهاباً لأعمالها الفنية في الأردن؛ فقدمت منحوتة "النهر" الموجودة على مدخل بنك القاهرة في عمان، والمصنوعة من الجرانيت الأزرق، بالإضافة إلى منحوتة "دائرة الأيام السبعة" في جامعة العلوم والتكنولوجيا في مدينة إربد، ونافورة أمام المسجد الحسيني في عمّان تخليداً لذكرى والدها الذي اعتاد أن يصلي هناك.
وقدمت كذلك منحوتات أخرى موجودة في عواصم عربية وخليجية عدة، ولعل منحوتتها الشهيرة "هندسة الروح" التي زينت ساحة معهد العالم العربي في العاصمة الفرنسية أبرزها، في حين تم اقتناء أعمالها في المتحف البريطاني والمتحف الوطني للفنون الجميلة في الأردن، ومتحف "غيغنهايم" ومعهد الفن في شيكاغو، ومعهد الفن في ديترويت في ولاية ميشغان الأمريكية.
النحت يتولد من الحجر، ومنى السعودي استطاعت بتجربتها وخبرتها الطويلة أن تستنطق الحجر وتجعله شيئاً مرئياً يسر الناظرين.. ورغم الرحيل المؤسف ستظل حالة فنية خاصة وشاهدة على تشكيلية رائعة لم تستسلم لقيود المجتمع.