جميلة بوحيرد .. ذهب شلال الأحزان، وظل كفاحها الأصل و العنوان

من الجزائر حيث غنت لها وردة، إلى لبنان حيث ساندتها فيروز، مروراً بسوريا حيث آزرها نزار قباني، وحتى مصر حيث ألهب صمودها قريحة صلاح جاهين، كانت المناضلة الجزائرية الجميلة جميلة بوحيرد قاسماً مشتركاً في صباحات المحبين، والثائرين، والفنانين، ولم يحظ أحد بالشهرة التي نالتها، وقصة الصمود التي كتبتها.

كأنك وأنت تسمع كلمات النشيد الوطني الجزائري "نحن ثرنا فحياة أو ممات وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر" تحضر في البال قصة جميلة قبل الآخرين، تلك التي لم تتردد لحظة في الانضمام لجبهة التحرير الوطني الجزائرية غداة انطلاق ثورة أبناء شعبها للنضال ضد المستعمر الفرنسي عام 1954 وهي على أعتاب العشرين من عمرها، ثم التحقت بصفوف الفدائيين وكانت أول المتطوعات مع المناضلة جميلة بو عزة ، ولم يكن غريباً أن تصبح المطاردة رقم 1 حتى ألقي القبض عليها عام 1957 عندما سقطت على الأرض تنزف دماً بعد إصابتها برصاصة في الكتف، لتبدأ رحلة عنوانها الفرعي التعذيب، وعنوانها الرئيسي الصمود والخلود .

 

جامعة لم تدرس في الجامعة

في حي القصبة البسيط بالعاصمة الجزائرية، ولدت جميلة بوحيرد عام 1935 لأب جزائري وأم تونسية، وكانت الفتاة الوحيدة بين سبعة شباب، وقد دفعها عشقها لتصميم الأزياء للالتحاق بمعهد للخياطة والتفصيل، ومثلما كانت ماهرة في الرقص على زجاج الخطر وركوب الظروف المخيفة كانت ماهرة أيضاً في الرقص الكلاسيكي وركوب الخيل.

وخلافا لما روجت له بعض الكتابات بأن جميلة دخلت إلى الجامعة فذلك غير صحيح، حيث يقول ياسف سعدي (سياسي جزائري وأحد أشهر قادة الثورة الجزائرية) بأن جميلة " تنتمي إلى نفس القالب الذي ينتمي إليه أطفال الأحياء الفقيرة، ولذلك فقد كتب عليها منذ ولادتها بأنها لن تدخل الجامعة"، غير سيرتها جعلتها جامعة بحد ذاتها!

 

"الجزائر أمنا “!

تشكلت نزعة الثورة والخروج عن المألوف لدى بوحيرد منذ طفولتها، فبينما كان الطلاب الجزائريون يرددون خلال طابور الصباح " فرنسا أمنا" في المدرسة الفرنسية ، خالفت مذهبهم وصرخت بأعلى صوتها : " الجزائر أمنا "، مما دفع ناظر المدرسة لإخراجها من الطابور وإنزال أقسى العقوبات بها، لكنها لم تتراجع، وربما ظلت تتذكر عدم تراجعها طفلة، فعز عليها أن تتراجع في مرحلة الإدراك والنضج، حيلن ألقي القبض عليها بعد إصابتها برصاصة في الكتف بعد انضمامها لجبهة التحرير الجزائرية للنضال ضد الاستعمار الفرنسي، وحين كانت تقوم بدور حلقة الوصل  بين قائد الجبل في جبهة التحرير الجزائرية ومندوب القيادة في المدينة (ياسف سعدي) الذي كانت المنشورات الفرنسية في المدينة تعلن عن دفع مبلغ مئة ألف فرنك فرنسي ثمنا لرأسه.

دخلت بوحيرد المستشفى، وبدلاً من معالجة جرحها النازف حاول الفرنسيون معالجة جموحها وعنفوانها، فتعرضت للصعق الكهربائي لمدة ثلاثة أيام كي تعترف عن أماكن تواجد رفاقها في جبهة التحرير الجزائرية، وكانت تفقد الوعي، لكنها لم تفقد صمودها أبداً، وكلما كانت تسترد وعيها كانت تستدعي مرحلة الطفولة والعبارة ذاتها: "الجزائر أمنا".

هذا الفشل الذريع في ترويضها وانتزاع أي اعتراف منها، دفع المستعمر الفرنسي لمحاكمتها صورياً،

وصدر بحقها حكم بالإعدام عام 1957، وأثناء المحاكمة وفور النطق بالحكم رددت جملتها الشهيرة: "أعرف أنكم سوف تحكمون عليّ بالإعدام لكن لا تنسوا أنكم بقتلي تغتالون تقاليد الحرية في بلدكم ولكنكم لن تمنعوا الجزائر من أن تصبح حرة مستقلة".

كان يوم 7 آذار لعام 1958 موعد تنفيذ الحكم، غير أن قصة الجميلة بوحيرد دفعت العالم كله للتضامن معها، مما دفع لجنة حقوق الإنسان بالأمم المتحدة  للاجتماع من أجلها، بعد أن تلقت الملايين من برقيات الاستنكار من كل أنحاء العالم. تأجل تنفيذ الحكم، ثم عُدّل إلى السجن مدى الحياة. وبعد تحرير الجزائر عام 1962، خرجت جميلة بوحيرد من السجن حرة عزيزة كما دخلته، وكانت المفارقة بأنها تزوجت محاميها الفرنسي جاك فيرجيس سنة 1965 الذي دافع عنها وعن مناضلي جبهة التحرير الوطني ، فلم يكن خلاف بوحيرد مع الفرنسيين بسبب أصولهم، وإنما بسبب إصرارهم على طمس أصلها وتاريخ بلادها !

 

مجانين جميلة بوحيرد!

ألهبت بوحيرد قريحة الشعراء وصارت ملهمتهم، وفي حين كان كل شاعر من شعراء الشعر العذري مجنوناً لواحدة بعينها، صار أغلب الشعراء الذين عاصروا قصة جميلة بوحيرد مجانينها، فكتبوا عنها قصائد عديدة، وصارت بحق أيقونة النضال على مستوى الوطن العربي لا على مستوى الجزائر حصراً

فهذا الشاعر كامل الشناوي يكتب عنها قائلاً :

 

الليل، والقضبان، والجدران، والسجان، والقيد الحديد

وصرير أبواب، ووقع خطى، وأبواق تدوّى من بعيد

وجميلة عذراء إنسانة، ألقوا بها فى أرض زنزانة

عريانة، والأرض عريانة

أما صلاح جاهين فكتب لها :

شفايفها لما تضحك، زي شفايف ثريا

وعيونها بالحواجب تمام شبه سنية

وشعرها المموج، مفروق من الشمال

على الموضة البناتي

زي عروسة كمال، وسمرا زي خضرة

ورقيقة زي سوسن

والورد فوق خدودها صلاة النبي أحسن

والصورة بين أيدينا مع كل حي حبة

ياخدها يطل فيها

حرام يا عيني شابة

واللي ما دريش يقولك مالها؟ جرى لها إيه

ده اللي جرى لجميلة ما ينسكت عليه؟

 

فيما غنت لها وردة الجزائرية في بداياتها، أغنية من كلمات الشاعر اللبناني عبد الجليل وهبي، وألحان فيلمون وهبي تقول:

"كلنا جميلة البطلة النبيلة

كلنا فداها البطلة الجميلة

جميلة الصبية الشجاعة القوية فتاة الجزائر

من أجل القومية الحرة العربية والنضال الثائر

سفكت دماها

وظنوا جميلة لا يوجد سواها"

 

 

أما فيروز فكانت ممن تركوا بصمة في قصة بوحيرد، حيث غنت لها من كلمات وألحان الأخوين رحباني:

 

"صديقتي جميلة تحية إليك

حيث أنت.. فى السجن .. فى العذاب

حيث أنت

تحية إليك يا جميلة

من ضيعتي أغنية جميلة

وخلف بيتي لوزة تزهر

وقمر أخضر

وموجة رملية من شطنا تبحر"

 

غير أن قصيدة نزار قباني التي حملت اسمها كانت الأكثر توهجاً وانتشاراً، ومنها:

 

"الإسم: جميلةُ بوحَيرَدْ

رقمُ الزنزانةِ: تِسعُونا

في السجن الحربيَّ بوَهران

والعمرُ اثنانِ وعشرُونا

عينانِ كقنديلي معبَدْ

والشعرُ العربيُّ الأسوَدْ

كالصيفِ ..

كشلاَّلِ الأحزان"

 

ذهب شلال الأحزان على كل حال، وذهب الاستعمار الفرنسي إلى غير رجعة، وظل كفاح جميلة بوحيرد الأصل والعنوان، حية روحاً وحية ذكراً، وباقية أبداً، فأمثالها لا يرحلون!