جبل عمان.. مهد نهضة المدينة وانطلاقة المستقبل الريادي

تكتسب المدن هويتها الإنسانية من السكان الذين يتناوبون على إشغالها على مر الزمن، وكأنما يمنحونها صبغة من جيناتهم البشرية، ليتتبّع من يمر عليها أثر كل إنسان تواجد هنا يوماً.

هنا؛ بينما تسير في أزقة جبل عمّان أحد أحياء مدينة عمان الواقع في شطريها الشرقي والغربي، ابتداء من الدوار الأول وصولاً للدوار الثالث، تلمس حتماَ تنوعاً بشرياً، ربما قلّ أن تشعر به في أي مكان آخر من المدينة، إذ صبغ ساكنوه على أحجاره المرصوفة بإتقان وجوهاً كثيرة، تُلقي التحية كلما مرّ أحد من جانبها.

لمحة تاريخية عن جبل عمان

تاريخياَ، استقر الإنسان في أعالي الجبال لمنعتها، ولكونها تؤمّن في علوّها الحماية لساكنيها. ربما يفسر لنا هذا الأمر استقرار السياسيين وضباط الجيش ورجال الأعمال في جبل عمان، الذي كان بمثابة انطلاق المدينة الجديد آنذاك، وذلك عقب إعلان المملكة الأردنية عام 1946، عبر بناء المنازل والقصور والمرافق السياسية والحكومية. أضاف إلى ما سبق تأسيس الدوار الأول كشريان رئيس، استطاع الربط ما بين شرق وغرب المدينة، ليتحول الحي مع مرور الوقت وتطور الحياة السياسية إلى منطقة تضم نخبة المجتمع، الأمر الذي يفسر تواجد العديد من المعالم الثقافية والمعمارية والفنية التاريخية، العائدة لفترة بداية القرن العشرين، كمنزل الملك طلال، ومبنى مجلس الأمة القديم، وبيت شفيق باشا الحايك، وقصر بلبيسي، وبيت المفتي، وبيت عائلة سمور، وبيت مانجو وغيرها الكثير، لتجدها أماكن تنبض بالحياة رغم مرور السنين، بتحويلها إلى متاحف ومراكز تربوية وثقافية وفنية. في جبل عمان، تجد مؤسسة عبد الحميد شومان ومكتبتها التي توفر مساحات ثقافية آمنة ومجانية للشباب، وترفدهم بالكتب والنشاطات التي من شأنها النهوض بهذه الفئة المهمة من المجتمع الأردني، للوصول للتغيير المجتمعي، كما المنظمات الحقوقية والإنسانية التي تقدم الخدمات للاجئين والوافدين، علاوة على توفير الفرص والتدريبات للنساء والشباب والشابات. وما يزيد الحي أهمية، وجود بعض المراكز اللغوية كالمعهد الثقافي البريطاني، الذي يهتم بتطوير الجانب المعرفي اللغوي لرواده. إن جميع مؤهلات الحي  الكبيرة هذه  قد  دفعت أمانة عمان الكبرى عام 2005 إلى تصنيفه كنقطة جذب تراثية، تُغني المشهد الثقافي والإنساني الأردني.

تنوع ديموغرافي ملفت

يشكل حي جبل عمان، لوحة غاية في الجمال في التنوع الديمغرافي بشكل ملفت، لاحتضانه إلى جانب السكان الأصليين عشرات الجنسيات العربية والأجنبية المختلفة، فيسكنه  العمال الوافدون من الدول الآسيوية، كالهند والفلبين وأفغانستان وباكستان وبنغلاديش والبنغال، والعديد من الجنسيات العربية، من اليمن والسودان وسوريا والعراق ومصر، حيث تتعدد الأسباب لهذا التنوع البشري، أهمها قرب الحي من أماكن العمل الحيوية في المدينة، وتواجد العديد من الدوائر الحكومية التي توفر خدمات رئيسية كتسيير المعاملات والأوراق لأولئك الوافدين، بالإضافة لدائرة الأحوال المدنية والجوازات، والعديد من السفارات الأجنبية والبعثات الدبلوماسية، لتشكل عن حق لوحة إنسانية تبرهن على المبدأ الحياتي المتمثل في أن الاختلاف هو جوهر الحياة الذي  تستمر به البشرية.

رصيد معماري جمالي مميز للحي

أما على صعيد الهوية المعمارية، فمن الجلي لزائر حي جبل عمان ملاحظة توحّد شكل البناء، باستخدام الحجر الأصفر أو الوردي كعنصر أساسي في تكوين جمالية الهوية المعمارية للمدينة، مع وجود بعض الاختلافات في نماذج التصميم البنائي، وذلك لتأثر فن العمارة في الأردن بالموروث الإسلامي والروماني واليوناني، وفقاً للعديد من المعمارين الأردنيين. أما على صعيد الفنون، فيحوي الحي العديد من صالات السينما المهمة، التي كانت تستقطب شخصيات سياسية وفنية مهمة، لحضور أمسيات سينمائية وغنائية، كسينما الرينبو، وسينما فيلادلفيا الفخمة الواقعة على مقربة من المدرج الروماني ومسرح الأوديون الشتوي وهما الواقعان   في منطقة وسط البلد من الجهة الشرقية.

اهتمام مؤسساتي وسكاني يزيد الحي قيمة

الكثير من المؤسسات تهتم اليوم بالمحافظة على إرث حي جبل عمان الإنساني، كجمعية سكان حي جبل عمان "جارا" التي تأسست عام 2004، للمساهمة في إبقاء هوية الحي التراثية والتاريخية تنبض بالحياة، بتطبيق خطوات حقيقية على الأرض، عبر استحداثها "سوق جارا" عام 2005، كسوق موسمي يفتح أبوابه أيام الجُمَع للزوار في نهاية شارع الرينبو، وذلك من بداية شهر أيار/مايو وحتى نهاية شهر أيلول/سبتمبر من كل عام، كفرصة لتقديم مجموعة كبيرة من الحرف اليدوية، والمجوهرات، والفخار، والملابس والمأكولات المصنوعة على يد السكان المحليين، ليحجز هذا السوق مكاناً في قلوب مرتاديه كل صيف، لما يوفره من استمتاع بالتسوق الخارجي، وكفعالية لها قيمة اقتصادية وثقافية تضاف إلى رصيد الحي وسكانه.

كما تنبع أهمية هذه الخطوات من وصفها انطلاقة حقيقية لريادة الأعمال، لتواجد العديد من المؤسسات الرافدة للإبداع والابتكار، التي تفسح المجال أمام فئة الشباب لإنجاز مشاريع اقتصادية مهمة، تسهم ربما في تحقيق أمن اقتصادي للمجتمع على المدى البعيد، عبر الاستفادة أيضاً من المشاريع الناجحة التي انطلقت في بداياتها من جبل عمان وتوسعت إلى أحياء مختلفة من المدينة اليوم.

"مقهى النهضة" في قلب الحي النابض بالحياة

وانطلاقاً من أهمية حي جبل عمان على كافة الصعد، فقد قامت منظمة النهضة العربية للديمقراطية والتنمية (أرض) عام 2019 بتبني فكرة المشروع الريادي "مقهى النهضة" في موقع نابض في قلب الحي، لتعمل على تأسيسه وإطلاقه ليكون نواة لحاضنة أعمال عصرية، تساهم في نهضة الشباب، عبر توفيره مساحة للإبداع والابتكار، وذلك عبر تقديم التدريبات على صناعة الحرف اليدوية التقليدية والتراثية، ووجود صالة تجارية لعرض المنتجات النهائية وبيعها، بالإضافة إلى مطعم إنتاجي متاح للعامة وللسيّاح، لتعزيز فكرة السياحة الحضرية والإنسانية معاً. وكإحدى مبادرات مقهى النهضة، وضمن برامج التنمية الاقتصادية والبشرية وتمكين الشباب والتعليم فيها، ولتأسيس شراكة نوعية مع القطاع الخاص، تعمل على بناء قدراته من أجل خلق فرص تشغيلية ووظائف لائقة للعاملين فيه، ولتعزيز بناء قدرات الأردنيين واللاجئين في المجتمعات المضيفة، للتوظيف وبناء مهاراتهم التجارية ودعم رواد الأعمال كلٌّ في تخصصه، ولمساندة المشاريع الريادية لبدء العمل والنمو والتوسع، تنفذ المنظمة حالياً مشروع "صمم" بالشراكة مع القطاع الخاص، ممثلاً بشركة الزمرد للتحف الشرقية. قامت المنظمة بعمل استطلاع مجتمعي في المنطقة لمعرفة التحديات التي تواجه سكانها من الأردنيين واللاجئين، والكيفية التي يمكن بها التشبيك معهم لتشجيع التضامن المجتمعي، وتوظيف خبراتهم ومهاراتهم العملية لتوفير الخدمات المناسبة لهم وتعزيز مشاركتهم الاقتصادية، ودعم المشاريع الناشئة.  جرى تفعيل مقهى النهضة في سنة 2021 ليكون بذرة نهضوية تمثل أنموذجاً للشراكة بين منظمات المجتمع المدني والقطاع الخاص، وارتقاء بقدرات القطاعين التنموية، وتفعيل المسؤولية المجتمعية لدى القطاع الخاص. في ذات الوقت،  يسعى المقهى إلى إضافة مصادر دخل وتمويل لمنظمات المجتمع المدني وذلك لضمان الاستقلالية واستدامة الأعمال.  

صمم: مشروع ريادي، بدعم من البرنامج الأوروبي الإقليمي للتنمية والحماية لدعم لبنان والأردن والعراق (RDPP II) هو مبادرة أوروبية مشتركة بدعم من جمهورية التشيك، الدنمارك، الاتحاد الأوروبي، إيرلندا وسويسرا.