الأدب المهجري الجديد…نافذة للحفاظ على الهوية

يُطلق مصطلح "الأدب المهجريّ" على نتاج الأدباء العرب الذين أجبرتهم ظروفهم على ترك بلادهم، هؤلاء الأدباء الذين هاجروا في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، استطاعوا رفد الأدب العربي الحديث بنتاجٍ إبداعيٍ جديد شعراً ونثراً، كان له بصمة واضحة على صعيد الشكل والمضمون، والتأثر بالمدارس الأدبية العالمية في تلك الفترة.

وقام هؤلاء الأدباء بتأسيس جمعيات ونوادٍ أدبية في بلاد المهجر مثل (أبولو، والعصبة الأندلسية، والرابطة القلمية)، فمَن منا لم يقرأ لجبران خليل جبران أو ميخائيل نعيمة أو ورشيد سليم الخوري أو إيليا أبو ماضي وغيرهم؟

تساؤل مشروع

في السنوات الأخيرة بعد هجرة آلاف الأدباء والمبدعين العرب إلى بلاد جديدة مثل دول أوروبا، وأميركا الشمالية، وأستراليا، بات التساؤل مشروعاً حول تشكّل "أدب مهجري جديد"، لكنه يبدو مختلفاً إلى حدٍ ما عن الأدب المهجري السابق نظراً لإختلاف الظروف الإقتصادية وتطور تقنيات الإتصال المعاصر والإنفتاح الإعلامي، لذا فإن البعض يفضلّون إطلاق تسمية "أدب الاغتراب" أو "أدب المنفى" عليه، لكن هذه تسميات مخاتلة للواقع الذي بات أكثر انفتاحاً وأكثر تحفيزاً للإبداع.

وإذا كانت سمات الأدب المهجري السابق النزعة الإنسانية والحنين للوطن والهروب إلى الطبيعة، فإن نواة الأدب المهجري الجديد  تبدو مختلفة لاختلاف الظروف والمعطيات، فهؤلاء الأدباء عندما خرجوا من بلدانهم لم يحملوا في قلوبهم سوى الحرف النبيل، وعشقهم للوطن، وخيباتهم وهم يرون تبدد أحلامهم في أتون نار الحروب، لذا نجد أن هناك اختلافاً في المواضيع التي يتناولونها، فهم يكتبون عن ألم الغربة وصعوبة العيش في المجتمع الجديد، وكذلك عن طريق الهجرة الطويل، ومخيمات النزوح، وانكسار منظومة الثقة بالآخر، وتجارب البشر عبر طرق الموت، كل ذلك بنصوص أدبية جميلة وجديدة الطرح من خلال مدارس أدبية حديثة.

العدد الأكبر من هؤلاء الأدباء قصدَ أوروبا في السنوات الأخيرة، حيث تقول إحدى الإحصائيات أنه في عام 2015 وصل إلى ألمانيا ما يقارب ألف مبدعٍ بين كاتبٍ وفنانٍ وصحفي، ومن المؤكد أيضاً أن هناك أعداداً مهمة في دول أوروبية أخرى.

تراكم نوعي

في الحقيقة؛ لا يمكن دراسة الأدب كظاهرةٍ، إلا من خلال تراكم الكمّ النوعي وليس العدديّ في الطباعة والنشر، بعدها يُمكن تقييم هذه الظاهرة، هل هي فعلاً وصلت إلى مرحلةٍ جديدةٍ لها ما يميزها عن سابقاتها من سماتٍ وخصائص على صعيدِ الشّكل والمضمون؟    

 إذا تأملنا قليلاً ما يحصل الآن، نجد أنّ الكاتب العربي في "منفاه"، وبسبب تقنيات وسائل الاتصال ما زال حاضراً في وطنه روحاً وذاكرة رغم ابتعاده عنه جسداً. لم يستطع حتى اللحظة تقبل فكرة الحياة الجديدة، فمازالت مخيلة الكاتب تغرف من بحر ذكرياته الأليمة في وطنه في سنواته الأخيرة، ففكرة الحنين لم تختمر عنده بعد، وذلك لقرب العهد بالهجرة، ولأن الأسباب التي دفعته إلى مغادرة وطنه مازالت قائمة، فآلة الحرب مازالت تعمل في أغلب البلدان العربية، ومن جهة أخرى؛ نجد انقشاع الضباب عن صورة "أوروبا الحلم" التي رسمها الكاتب في مخيلته قبل الهجرة، فهو لم يختبرها بعد، مازال يعيش هول الصدمة ومرارة الوصول، ومازال يحمل في ذاته جرحاً طرياً ينزف ألماً على وطنه.

خطوات مهمة

ومع كل ذلك؛ فإن حركة النشر قد تطورت في الفترة السابقة، حيث أصدر الأدباء العرب في المهجر، مجموعة مهمة من الكتب في مختلف صنوف الأدب، وشهدنا مؤخراً انعطافة مهمة في هذا المجال، حيث تعددت الكتب المترجمة إلى اللغات الأخرى كالإنجليزية، والسويدية، والألمانية، والفرنسية، وهذه خطوة مهمة جداً للتواصل الثقافي والمعرفي مع المجتمعات الجديدة التي تمتلك غالباً رؤية غائمة عن القادمين الجدد.

 كما بدأ هؤلاء الأدباء بتأسيس نوادٍ وجمعياتٍ أدبيةٍ ومكتبات تضمّ أحدث الإصدارات، ومنابر أدبية عربية في العديد من المدن الأوروبية. هذا كله يسوقنا إلى تلمُّس المسؤولية الملقاة على عاتق الكاتب العربي المهاجر في تحسين الصورة النمطية المرسومة عن الإنسان العربي، والتي تبدو إلى حدّ ما ضبابية عند الغرب.

وبالمقابل فإن الكاتب العربي في المهجر لا يستطيع الاستمرار وحيداً وبجهوده الشخصية في ظل استغلال دور النشر العربية للمبدعين، وشروطهم التعجيزية للموافقة على طباعة أي كتاب، حيث يصل الأمر إلى حد الزام الكاتب بدفع تكاليف الطباعة، لذا؛ إذا كنا حريصين على تطور وتماسك وتبلور الأدب المهجري الجديد، فإننا بحاجة ماسة لمأسسة هذه الحركة الإبداعية، وتبني مؤسسات ثقافية واجتماعية لهذه التجارب، وأن تدرج الأدب في برامجها وخططها المستقبلية، لأن الأدب العربي في المهجر أصبح نافذة مهمة للحفاظ على الهوية اللغوية.