عبد الهادي الركب يكتب: حروفٌ قُدّت من بشر

يعاني الإنسان منذ النشأة، من ويلات الحروب والقتل والاضطهاد، لأهداف عديدة مسبّبة لهذه النزاعات، يكون البشر فيها الضحية الأكبر، مما يستدعي وجود قوانين حماية ومنظمات رعاية، تقدّم يد العون لهم تحت مظلة "اللجوء". يُعرّف "اللاجئ" حسب المادة الأولى من اتفاقيّة 1951 الخاصة بوضع اللاجئين، بأنّه "كل شخص يوجد، وبسبب خوف له ما يبرره من التعرض للاضطهاد بسبب عرقه أو دينه أو جنسيته أو انتمائه إلى فئة اجتماعية معينة أو آرائه السياسية، خارج بلد جنسيته، ولا يستطيع، أو لا يريد بسبب ذلك الخوف، أن يستظلّ بحماية ذلك البلد، أوكل شخص لا يملك جنسية ويوجد خارج بلد إقامته المعتادة، أن يعود إلى ذلك البلد".

ولكن، من أشد أشكال القسوة على أبناء البشر، أن يتحول وطنهم الأم لشريط ذكريات، يلمع في عيونهم، عندما يعبرون حدوده، في قارب صيد بحري، أو في صحراء شاسعة تذوب في رمالها ملامح الوطن.

ظروف لا تحتمل، قادت كثيرين لترك بلادهم قسريًا، دون فرصة لاختيار الوجهة المضيفة، يجمعهم هدف البحث عن مأوى آمن. حالات عديدة يلفها الألم، للاجئين صيّرت الحرب حياتهم موتًا، حالات نشاهدها على شاشات التلفزة، أو نقرأ عنها في الصحف اليوميّة، أو ربما على شكل خيمة نعبر من جانبها، كلها فجّرت بداخلنا تساؤلات عديدة، عن دوافع لجوئهم، لكن دون التساؤل عن تفاصيل رحلهم لحين وصولهم إلى دول اللجوء.

في حي من أحياء مدينة عمّان، يعيش ثلاثة أطفال مع جدتهم، كانوا قد لجأوا إلى الأردن، منذ ستة أعوام، في رحلة قاسية دامت لأشهر، في محاولة لدخول الأراضي الأردنية. بدأت رحلة "سلمى" و "عليا" و"آدم"، بعدما غدوا وحيدين في بلدهم سوريا، وذلك بعد اختطاف الأب على يد مجهولين، ومقتل الأم على يد مسلحين، حينها بدأت الجدة التي تعيش في الأردن، بمحاولات نقل الأطفال إلى الأردن.

"لم تكن فرصة خروج الأطفال من بلادهم سهلة البتة"، حسب ما أورده ذوي الأطفال، فقد تجرعوا كؤوس المرار في رحلتهم، التي بدأت بالانتقال من دمشق إلى درعا، للاقتراب من المراكز الحدودية بين البلدين.

تقول سلمى، الأخت الكبرى، "وصلنا إلى الحدود عدة مرات، ولم نتمكن من الدخول بمفردنا، كنا نعود إلى بيوت أناس لا نعرفهم، وتنقّلنا بين أكثر من عشرين منزلًا، في محاولة للبقاء قرب الحدود". أمام هذه الحالة، لا يمكننا تخيّل حجم مأساة أطفال تنقلوا بين عدد كهذا من المنازل، لما قد يتعرضون له من محاولات تحرش أو استغلال أو اضطهاد، وما يترتب على ذلك من آثار نفسية مؤذية قد تصيبهم.

تضيف "عليا"، الأخت الأصغر، كنا نشعر بالخوف عندما نسمع أصوات الطائرات، وأصوات القصف والانفجارات، قرب المنزل الذي نعيش به، كنت أبكي ليلًا، خوفًا من أن يختطفنا أحد ولا نستطيع الوصول إلى منزل جدتي". على الرغم من كل الصعوبات، تمكّن الأطفال في نهاية المطاف من دخول حدود الأراضي الأردنية، وتم تسجيلهم في مكاتب المفوضية السامية لشؤون اللاجئين في عمّان، كطالبي لجوء، ليستقر الأطفال في منزل الجدّة، بعد التحاقهم بالمدارس الأردنية لاستئناف العملية التعليمية، للبدء بحياة جديدة تنعم بالحرية.

"لون الغياب" فيلم وثائقي قصير، شارك بإخراجه الصحفي "عبد الهادي الركب" بالتعاون مع "المعهد الاسكتلندي للأفلام الوثائقية" ومؤسسة "بدايات للفنون السمعية والبصرية"، جاء ليصورحياة الأطفال الثلاثة، وليكشف تفاصيل رحلتهم بعد محاولات عديدة.

في زوارق خشبية لا تقي من أمواج البحر، تلاطم أرواح من يركب بها، يمضي أولئك اللاجئون، نحو مصير لا يعرفونه، عبر تجّار بشر لا يعرفون الرحمة. هكذا يمكن وصف رحلة "رامي" الذي اضطرّ لمغادرة بلاده نحو مصر، لإكمال الطريق نحو ألمانيا. يروي رامي "كان المهرّبون يتقاضون مبالغ كبيرة مقابل نقلنا من مصر إلى سواحل إيطاليا، في رحلة موت لا ننساها، حيث كانوا يضعوننا في مزارع قريبة من السواحل المصرية، في ظروف معيشية قاسية، ومن يقرر العودة فمصيره القتل.عندما ركبنا في القارب الذي لا يتّسع لنصف عددنا، بكيت نفسي وبلادي عن بُعد آلاف الكيلومترات، وتمنّيت النجاة".

يفيد تقرير نشرته "المفوضيّة السّامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين"، تحت عنوان "رحلات يائسة"، تناولت من خلاله قضية الهجرة عبر البحر، ليؤكد التقريرعلى أنّ "رحلات عبور البحر الابيض المتوسط من أخطر رحلات العالم"، بالإضافة إلى تصريح "خالد الحسيني"، سفير المفوضية السامية لشؤون اللاجئين للنوايا الحسنة، أثناء نشره كتابًا مصورًا مُهدى لأرواح آلاف اللاجئين الذين لقوا حتفهم في رحلات اللجوء، جاء فيه "زرت في صقلية مقبرة معزولة مهملة، مليئة بقبور لا تحمل أسماء أشخاص، كانت لغرقى في البحار، كلّ واحد منهم أصبح رمزًا على قبر، ولكنهم جميعاً تجرأوا على الحلم بمستقبل أكثر إشراقًا".

تتعدد القصص، وتختلف في الزمان والمكان، ولكنّها تتوحد على هدف واحد، الأمل بإمساك ذاك الخيط، خيط الحياة الرفيع، الذي قد يخيّب أملهم وينقطع، حينها، يأتي دورنا في المجتمع، لنعقد الخيط مجددًا، ليتجدد الأمل.