
نور أبو فرّاج تكتب: عزباء حتى إشعار آخر!
لا تنفك (ر. ع) تفكر بأن هناك من كان مُقدراً لها أن تقترن به، «نصفها الحلو» كما اعتادت أن تسميه، لكنه قد يكون هاجر هرباً من الخدمة العسكرية أو نزح بعدما فقد بيته. والخيار الأسوأ الذي تحاول الفتاة إبعاده أن يكون قُتل في مكانٍ ما في هذه الحرب. بحيث تبقى هي «نصفاً لن يكتمل» وإن كانت على قيد الحياة.
تعيش الشابات السوريات اليوم صراعاً مع التسميات التي تصف حالاتهن العاطفية أو الاجتماعية. فمصطلح «تأخر الزواج» يشير إلى أن الحدث «السعيد» لما يأتي بعد، وإن كان ذلك قد يحصل في القادم من الأيام. أما «العنوسة» فتحمل إيحاءً ضمنياً بأن الفتاة نُبذت من جمع الراغبين في الزواج، وأنها تجاوزت العمر المناسب للحمل أو تكوين أسرة، خاصة وأنه وصفٌ يختص بالنساء فقط، كما لو أن صلاحية الرجال للزواج لا تنتهي. ولذلك فقد يكون لفظ «أعزب» الأنسب هنا، لأنه لا يحمل قيمةً سلبية ويشير إلى نوعٍ من الاستقلالية في اتخاذ القرار بالبقاء خارج منظومة الزواج. لكن الحقيقة أن جميع المصطلحات السابقة عصية عن تقديم وصف واقعي دقيق؛ إذ لم يتخذ الجميع قراراً شخصياً بعدم الزواج، حتى يركنوا إلى لقب أعزب، لكن هكذا كان الحال الذي فرضته الحرب بما حملته من تغيّرٍ ديموغرافي واجتماعي جراء عدد الضحايا والنازحين والمهاجرين الكبير.
بالرغم من أن عشرات الأسباب الموضوعية تفسّر احتمالية بقاء مئات الفتيات السوريات دون أي شكلٍ من أشكال الارتباط. إلا أنها مبررات تفقد قدرتها على الاقناع، حينما تعجز الفتيات عن تجاوز شعورهن الدفين بالفشل الشخصي، أو التعايش مع هذا الشعور اليومي بعدم الاكتمال.
الحاجة للارتباط، حتمت على الفتيات البحث عن حلول. وكالعادة في كل ما يتعلق بالشأن السوري ظهر اتجاهان متطرفان، يقترح أحدهما الرجوع خطواتٍ إلى الوراء عبر الترويج لخيار تعدد الزوجات والقبول بشروط مجحفة للزواج. فيما يتجلى الاتجاه المناقض بتكريس نمط من الانحلال الذي يبيح أي شكل من العلاقات المفتوحة. المشكلة أن القضية متعددة الأوجه، إذ لا يمكن تخيّل البنية المستقبلية للمجتمع السوري دون التطرق إلى بعض الحلول الإشكالية مثل الزواج المدني خارج حدود الأديان والطوائف، أو حق الأشخاص باختيار شريكهم وشكل الارتباط الذي يلائمهم في ظل جميع الضغوط الاقتصادية والسياسية التي فرضتها الحرب. يرى البعض أنه وعلى عكس الصورة التي يتم الترويج لها، تمتلك البيئات المحافظة تصوراً أكثر واقعية لمصير فتياتهن، إذ ليس صحيحاً أن جميع الآباء السوريين يريدون تزويج بناتهم لأول قادم يطرق بابهم. فالحرب ضمن جملة ما تفرضه، قد تكرس أحياناً نمطاً أكثر مرونة في التفكير يدرك الواقع كما هو ويسعى للتكيف معه.
تشترك مئات الفتيات السوريات في حالة عدم التصديق بأن خيارات مصيرية كبرى كالارتباط صارت رهناً بظروف الحرب وتغيّر الديموغرافيا السورية. كثيرات لم يتخذن موقفاً حاسماً من الزواج، وأخريات فضلن العائلة بصورتها التقليدية. في كلا الحالتين أرادت الفتيات الشعور بأن الزواج أو عدمه قرارٌ شخصي، وليس قراراً اتخذته الحرب بدلاً منهن.
الحرب فرضت الكثير مما لم نكن نريده: أقرباء وأصدقاء يموتون، بيوتٌ تتدمر، وحياة تفقد عصبها الأساسي. والحرب فرضت أن يتم رسم حيواتنا بغير ما تخيلنا حينما كنا فتياتٍ وأولاداً في العاشرة من العمر. قد يكون شكل العائلة التقليدي كما عرفناه في كتب القراءة آيلاً إلى التفكك أو التبدل، هو تغيرٌ جذريٌ يضاف إلى نتائج الحرب المدمرة الأخرى. لكن الحرب ومقابل كل «مصيبة» ترميها في وجوهنا، تخلق آليات أكثر تطوراً للتأقلم والاستمرار. بالتأكيد تحتاج النساء السوريات إلى منظور تفكير مغاير يبتعد عن صورة الذات «المنقوصة التي لا تكتمل إلا بالنصف الحلو». بحيث لا يخلق تأخر الزواج أو عدم حدوثه عطباً في الفاعلية والقدرة على الاستمرار في التطور والعمل. لكن حدوث كل ذلك مرهونٌ بخلق مناخ أكثر إيجابيةً وانفتاحاً، يخفف من السخرية اللاذعة التي تصور الشابات بمظهر الملهوفات لاصطياد العريس. مناخٌ داعم يبتعد عن التضييق على الفتاة بحيث يجنبها أحد الخيارات المتطرفة آنفة الذكر. والأهم من ذلك، مناخٌ متوازن يُذكّر المجتمع ككل، أن الحاجة للارتباط والرغبة في مواجهة الصعاب برفقة شخص محب وداعم، ليست حاجةً أنثويةً فحسب، بل حاجة بشرية.