
منذر مصري يكتب: ثلاث سوريات لم يسمعن بيوم المرأة العالمي!
1- فاطمة
...الآن يقرع الباب، تفتح زوجتي.. تدخل (فاطمة) وهي تتكلم. تسب وتدعو..على من؟.. الجميع!. كعادتها كل ثلاثاء، وخلال 30 سنة، ستحتل البيت بحجة تنظيفه، وستكون سيدته بلا منازع لمدة ست ساعات أو أكثر. يتميز أسلوب (فاطمة) الخاص في العمل، بعدة مواصفات.. البدء بفنجان قهوة صباحية في المطبخ مع زوجتي، التكلم طوال الوقت، استخدام الماء دون حساب، تجلي والحنفية مفتوحة على آخرها، تشطف أرض البيت وجدرانه بالخرطوم، حريصة أن تدخل الماء في فتحات أقفال الأبواب، عملها إخفاء كل شيء يقع عليه بصرها بحشره في الأدراج، لا على التعيين، فيبدو في النهاية كل شيء مرتباً ونظيفاً على نحو منقطع النظير، ما عدا طاولة الطعام التي استخدمها كمكتب لي، تتكدس على سطحها أجهزتي وكتبي وأوراقي. أقول لها: "كيلو الحليب يا فاطمة بـ 250 ل.س". تجيبني: "لا يوجد حيوانات أبو شكيب". تكسر حربة تمثال (دون كيشوت) الذي أحضرته لي أختي مرام من اسبانيا، تدلق زجاجة العطر الفرنسي التي أرسلها لي مصطفى من دبي، تصيح زوجتي: "انتبهي انتبهي يا فاطمة". تجيب: "بلاد تدمرت ومدن تهدمت وناس تشردت.. يا أم شكيب!". أقول لها: "حزين أنا يا فاطمة.. مات عصفوري الحسون هذا الصباح"، تقول دون أدنى رغبة بمواساة: "شباب كالزهور ماتوا.. أبو شكيب!".
آخر سنة 2011، أخبروها باعتقال ابنها، بعده بأشهر، اعتقلوا زوجها، لا تعلم لماذا، قالوا لها، يهرّبان دخان إلى الجبل، ولليوم لا تعلم عنهما شيئاً، وما عادت تريد أن تعلم، يئست من طرق أبواب هذا وذاك: "ماذا أستطيع أن أفعل.. سلمتهما إلى الله".
تعمل (فاطمة) كل يوم، من الساعة العاشرة صباحاً حتى الخامسة عصراً.. لديها خمسة بيوت.. وتبحث عن بيت سادس.. هناك أفواه كثيرة فاغرة بانتظارها.
2- أم غطفان
غادر بنايتنا، خلال العشرين سنة ماضية، صنفان من العائلات. العائلات التي تحسنت أحوالها واغتنت، وصار يناسبها بيوت أوسع وأفخم، والعائلات التي ساءت أحوالها وفقرت، وبات يكفيها بيوت أصغر وأرخص. عائلة (أم غطفان) الفلسطينية كانت من النوع الثاني. موت (أبو غطفان) بأزمة قلبية، أصاب العائلة في الصميم. تبعه موت (غطفان) بمرض عضال، وبعد ذلك...اختفاء (عاصي) الابن الأصغر في ليلة ماطرة نهاية عام 2011، أثناء توصيله لعمه (أبي زوجته) بناقلته الصغيرة إلى بيته في حي الرمل الجنوبي (رمل الفلسطينية) في اللاذقية، "قلت له.. الصباح رباح.. توصله غداً" تقول.. إلا أن لا شيء يزعزع إيمان (أم غطفان) بالله وفلسطين والنظام السوري. تزورنا من حين لآخر، لتسمعنا دعواتها الصادقة لحماية سوريا ورئيسها. طبعاً لا تنسى دعواتها لأولادي، وإذا سألها أحد منا عن مصير ابنها، تجيب: "هناك دائماً ضعاف النفوس، يستغلون الفوضى وسوء الأوضاع. فيسرقون ويخطفون ويقتلون. البلاد في حالة حرب ولا يستطيع المسؤولون معرفة كل صغيرة وكبيرة، لكن الله موجود وبإذنه سيعود (عاصي) لي ولعائلته سالماً معافى".
بعد أربع سنوات من اختفاء (عاصي) يخبرونها أن في إحدى المستشفيات الحكومية في مدينة أخرى، صورة لشخص وجدت جثته ملقاة على جانب الطريق العام، في عمر قريب من (عاصي) وبتاريخ قريب لتاريخ اختفائه. تذهب وحدها، ليست أول مرة تمر في هذه التجربة، ولكن هذه المرة، الشخص هو (عاصي) والتاريخ المكتوب خلف الصورة هو اليوم التالي لخروجه من البيت آخر مرة.
3- نازحة
لا أعرفها، ولكن منذ أول مرة رأيتها، وجهها لم يبرحني قط، امرأة ترتدي جلباباً أسوداً، صدئاً ومغبراً! يظهر منه وجهها ذو الملامح الكبيرة وكفاها الأسمران الممتلئان.. واقفة مثلي أمام بوابة فرع الأمن (...). ثم عندما قادوني إلى غرفة التحقيق، رأيتها جالسة هناك، تطرق رأسها بوجوم تتمتم بكلام ما. سمعتها تجيب بأنها نازحة منذ ثلاث سنوات مع أولادها من حلب.. أخوها شهيد في الجيش السوري.. زوجها مفقود، ربما خطفه مسلحون وقتلوه، لو كان لديه أي علاقة بهم لما نزحت إلى هنا. "لا تعلم لماذا استدعوها، ليس لديها ما تخفيه أو تخاف منه" قالت، لكنها كانت ليس فقط خائفة بل مرعوبة، رغم أنهم لم يعاملوها بأي قسوة ظاهرة. أخذوها لغرفة أخرى، ربما لتتعرف أو ليتعرف عليها أحد ما، ثم أعادوها وأجلسوها بجانبي. انتبهت إلى أنها تبكي وترتجف، وكأنها على وشك الانهيار، فما كان مني إلا أن حاولت تهدئتها وطمأنتها: "لا تخافي يا أختي.. لن يصيبك شيء.. لن يؤذيك أحد"، فإذ بأحدهم يلتفت إلينا ويصيح: "بلا صوت"..
* مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر أصحابها، ولا تُعبّر بالضرورة عن رأي "هنا صوتك".