
رحلت 2015 وقد خلفت وراءها أول حكم قضائي في مصر بإدانة أب عرض ابنته لعملية ختان. فقد قضت محكمة جنح دار السلام بالقاهرة في القضية رقم 9138 لسنة 2015، الخاصة بواقعة ختان الطفلة «ه . ه.» البالغة من العمر (14 عاما)، غيابيا بتغريم والدها وزوجته الثانية وأخت زوجته، ألف جنيه وإحالة الدعوة المدنية للمحكمة المختصة.
أشادت المؤسسة المصرية للنهوض بأوضاع الطفولة بالحكم، لكنها اعتبرته خطوة منقوصة على طريق العدالة الصحيح، ويبدو رد فعل المؤسسة منطقيا إذا علمنا أنه في عام 2006 قضت محكمة في جوتنبرج بسجن أب سويدي من أصل صومالي أربعة اعوام ودفع 46 ألف دولار أمريكي لابنته (13 عاما) تعويضا لها عن إجراء عملية ختان لها دون رضاها.
ولذا انتقدت المؤسسة «العدالة المنقوصة»، وإغفال النيابة العامة في قيدها ووصفها للواقعة كون المجني عليها طفلة، والأخذ في اعتبارها قانون الطفل في نصوص مواده 96 و 116 مكرر من قانون الطفل المصري رقم 12 لسنة 1996 والمعدل بالقانون رقم 126 لسنة 2008.
كما طالبت وزارة الصحة بإحكام الرقابة على كل القائمين على العملية الصحية للحماية من عدم تجازوهم وعدم ارتباكهم مثل تلك الجرائم وتنفيذ قرار وزير الصحة رقم 271 لسنة 2007، وإعادة دور الدولة مرة أخرى من خلال حملات التوعية بخطورة ختان الإناث، سواء بالجهاز الإعلامي للدولة أو المجلس القومي للطفولة والأمومة وكل الجهات المعنية لرفع الوعي بخطورة تلك القضية.
"إذا كان تغيير تلك المفاهيم أمامه بعض الوقت، فالملجأ هو تطبيق القانون على الممارسين للختان، بكل حزم، وسد الثغرات التي كانت تحول دون تقديمهم إلى المحاكمة"- سامية بكري
ويربط غالبية المتابعين لقضية ختان الإناث بداية الحديث عنها بالمؤتمر الدولي للسكان، الذى عقد بالقاهرة 1994، حين أذاعت قناة سي إن إن وقتها تقريرا مصورا عن عملية ختان لفتاة مصرية، بالتزامن مع أعمال المؤتمر. وقد تباينت التناولات الصحفية وقتها للفيلم، واعتبره البعض مؤامرة غربية لتشويه سمعة مصر، وورقة ضغط على الحكومة المصرية من أمريكا وأوروبا، فيما رأت جماعات حقوق الإنسان والمرأة أن الختان هو الذى يشوه سمعة مصر فيما استطعت أنا منع إجراء عملية الختان لكثيرات من بنات العائلة، وأولهن أختي الصغرى بعد حملة التوعية التي تلت الفيلم.
لم أكن أعرف وقتها أن الكتابات التي توثق للجهود الأهلية ضد هذه الممارسة ترجع بداية الحديث عن هذه القضية إلى ما قبل 86 عاما، وتحديدا في 28 ديسمبر عام 1928، حين أعلن الجراح وأول عميد مصري لطب قصر العيني، علي باشا إبراهيم، خلال مؤتمر عقد بالقاهرة، أنه لم يتعلم ختان الإناث، ولا يعلمه لطلابه، ناصحا بعدم إجرائه، لافتا إلى أن كل معلوماته عنه أتت من البنات اللاتي يتم استدعاؤه لإنقاذهن من عواقب الختان.
وبهذه المعلومة يؤكد د مجدى حلمي في كتابه الصادر عن هيئة كاريتاس مصر ومنظمة اليونيسف "ختان الاناث في مصر- تقرير توثيقي" أن ختان الإناث لم يكن جزءا من ممارسة الطب في مصر.
في الثلاثينات كتب المفكر سلامة موسى مقالا تناول فيه ختان الإناث كمشكلة اجتماعية، نشره في كتابه "مقالات متنوعة"، انتقد فيه هذه الممارسة لأنها بلا أي مبرر طبي، أو ديني.
وكتب: "إن عملية الختان ليس لها أي تبرير في الطب، كما ليس لها أقل سند في الدين"، وتطرق المقال إلى حالة ضعف التجاوب الجنسي لدى الزوجات بسبب الختان، وناقش ختان الإناث من منظور المساواة بين الجنسين في الحقوق الدستورية والمدنية، مؤكدا أن الختان يحرم الزوجات حقا يستمتع به الرجال، وهو ما يعد انتهاكا لحقوق المرأة الدستورية والمدنية وهو حقها في أن تستمتع بما يستمتع به الرجل".
عام 1958 نشرت مجلة "حواء" عددا من المقالات عن مضار الختان، كما أجابت على رسائل القراء بالنصح بعدم إجرائه، ووصف د. حلمي في كتابه هذه الحملة التي قادتها الصحفية أمينة السعيد بالجرأة والصراحة في رفض ختان الإناث
في 1959 أصدر وزير الصحة القرار رقم 74 في يونيو 1959 بحظر إجراء ختان الإناث في مستشفيات ووحدات وزارة الصحة.
أما ما تم في فعاليات مؤتمر السكان وما بعدها ضد الختان، فقد أسفر عن أول برنامج مدعوم سياسيا لمكافحة هذه العادة البغيضة. ففي عام 2003 تبنى المجلس القومي للطفولة والأمومة برنامجا وطنيا لمناهضة ختان الإناث، وهو نفس العام الذى أعلنت فيه أول قرية مصرية تخليها عن ختان البنات بمساعدة الهيئة القبطية الإنجيلية، وهي قرية دير البرشا بمحافظة المنيا.
وتبنى البرنامج حملات إعلامية "البنت مصرية" تميزت بالمعلومات الطبية والدينية عن هذه العادة، وردت على الأفكار المغلوطة التي يروجها المؤيدون لها. كما يعتمد البرنامج على مشاركة الشباب المتطوعين، وأعلنت أول قرية بالبرنامج " بنبان" بمحافظة أسوان، رفضها للممارسة في وثيقة شعبية بحضور المحافظ وأمين عام مجلس الطفولة، في 2005 وتوالت الوثائق بعد ذلك.
وتركز الخطة الوطنية لمناهضة ختان الإناث في الفترة القادمة، بحسب د. فيفيان فؤاد المنسقة بالبرنامج على خفض معدلات ممارسة ختان الإناث، بنسبة 20% خلال الخمس سنوات المقبلة، بمشاركة الجمعيات الأهلية والهيئات التعليمية والدينية والإعلام .
ورغم كل هذه الجهود فالحاصل أن كثيرا من المصريين مازالوا، بتأثير الجهل أو الانقياد، يرون أن ممارسة ختان الإناث عادة وتقاليد تؤدى لعفة وشرف الفتاة، ولا يتصورون أنها جريمة تنتهك الحقوق الأساسية للفتاة وللأسرة المصرية، إذ مازال يسيطر مناخ من التفكير الذكوري الذي يرى من حرمان الأنثى من لذتها واجبا دينيا واجتماعيا فرضته عليه رجولته، فيما تثبت كثير من الأبحاث أن خضوع امرأة للختان لا يمنع من ممارستها البغاء.
وإذا كان تغيير تلك المفاهيم أمامه بعض الوقت، فالملجأ هو تطبيق القانون على الممارسين للختان، بكل حزم، وسد الثغرات التي كانت تحول دون تقديمهم إلى المحاكمة.
وهكذا يمثل الحكم الصادر ضد الأب الذي عرض ابنته لهذا الانتهاك البدني والنفسي، خطوة تأخرت طويلاً. لكن يبقى الأمل في أن طريق الألف ميل يبدأ بخطوة، وطريق القضاء على الجريمة يبدأ بحكم قضائي يجرم من اقترفها.
* مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر أصحابها، ولا تُعبّر بالضرورة عن رأي "هنا صوتك".